قل ما شئت فى مهرجان الترشح لرئاسة مصر، لكنك لا تستطيع أن تنكر أمرين، الأول أن الرئاسة لم تعد قدرا مكتوبا لصالح أحد بذاته أو أسرة بعينها. وإنما صار بوسع أى أحد يتوسم فى نفسه جدارة أو استعدادا لتبؤ المنصب أن يتقدم إلى الحلبة ويجرب حظه. كما أن بوسع أى جماعة من الناس لديها رسالة أو مشروع أيا كان أن تشكل حزبا وتدفع بمرشح لها ليخوض غمار المنافسة. الأمر الثانى أننا لأول مرة منذ أكثر من نصف قرن لم يعد بمقدرونا أن نعرف من يكون الرئيس القادم، الأمر الذى فتح الأبواب واسعة لمناقشات وتخمينات لا حدود لها حول حظوظ ومناقب وخلفيات كل مرشح. ولأن التجربة جديدة علينا، ومن ثم ليست لدينا معرفة كافية بخرائط التصويت وحظوظ وأوزان التيارات والقوى السياسية المختلفة فى المجتمع المصرى، فإن باب الاجتهاد فى الموضوع يظل مفتوحا على مصراعيه. صحيح أن نتائج الانتخابات التشريعية أعطت بعض المؤشرات الأولية إلا أن وضع الانتخابات الرئاسية مختلف. لأن التصويت سيكون لشخص واحد، الأمر الذى يحتمل اختلاف الموقف إزاءه داخل التيار الواحد. حيث بدا حتى الآن أن هناك تباينا فى الرأى داخل جماعة الإخوان المسلمين ولدى السلفيين والليبراليين: ثم أنه ليس بمقدورنا أن نعرف شيئا عن مواقف الأغلبية الصامتة التى هى خارج تلك التصنيفات. لا يقف الأمر عند ذلك الحد، لأن أجواء المهرجان المفتوح سمحت بإثارة لغط ليس مألوفا عندنا بخصوص مواقف بعض الدول الخليجية، التى لم ترحب أغلبها بثورة 25 يناير، وانحياز أولئك البعض لصالح هذا المرشح أو ذاك. الأمر الذى فسر به نفر من أهل النميمة قوة الحملات الدعائية لدى البعض، حتى أن أحدهم تعاقد على حملة تليفزيونية لصالحه بما قيمته عشرة ملايين جنيه، حدث ذلك فى حين اتصل بى مدير حملة مرشح آخر شاكيا من نفاد مواردهم ومستفسرا عما إذا كانت لدى أى مقترحات لتنظيم حملة تبرعات أهلية لصالحه. من المفارقات أن حركة الإخوان التى ظل يقال طوال السنوات الماضية انها تتلقى دعما خليجيا، أصبحت تحارب فى الانتخابات من جانب بعض دوله، عن طريق دعم المنافسين المناوئين لمرشحيها. حتى أن الجماعة حين أرادت أن تبعث بوفد باسمها لتقديم واجب العزاء فى وفاة واحد من أركان إحدى الأسر الخليجية الحاكمة، فإن الطلب الذى قدمته للحصول على تأشيرة الدخول قوبل بالرفض، حيث أرادت الدولة المعنية أن تبعد عن نفسها «شبهة» مساندة الإخوان أو مجاملتهم حتى فى مناسبة من هذا القبيل. هذه الأجواء فى مجملها، الإيجابى فيها والسلبى، ما كنا لنشهدها لولا أجواء الحرية ونسمات الديمقراطية التى هبت على مصر بعد الثورة. وقد ظهر عنصر جديد فى المشهد الديمقراطى خلال الأسابيع الأخيرة، حيث وجدنا اللعب فى الساحة السياسية من جانب القوى الداخلية على الأقل يمارس «على المكشوف» كما يقولون إذ لم يتردد أحد المرشحين للرئاسة فى أن يقول أن مبارك مثله الأعلى، وبعد ذلك بأيام قليلة وجدنا نائب مبارك يقفز إلى الواجهة وفوجئنا به يترشح لرئاسة الجمهورية، وبعدما لاحظنا أن الرجل تمنع فى البداية ثم أقدم على الترشح فى النهاية، ووجدنا أن وراءه من جمع لصالحه آلاف التوكيلات ومن رتب له حملة الدعاية وأغرق البلد بالملصقات، أدركنا أن «الفلول» رتبوا صفوفهم وأسقطوا الأقنعة من على وجوههم، ولم يجدوا غضاضة من دخول الحلبة ومقارعة الجميع فى انتخابات رئاسة الجمهورية. الإخوان بدورهم دخلوا الساحة «بالعرض» كما يقولون، ورأينا فى أدائهم وحرصهم على الحضور ما لم نره من قبل، الأمر الذى سلط الأضواء على أولوياتهم ورؤيتهم الاستراتيجية، كذلك فعل السلفيون الذين علا صوتهم فى الساحة ورأينا ملصقات بعضهم تتحدث عن حلم الخلافة الإسلامية، الليبراليون والعلمانيون رأيناهم أيضا وهم يحشدون الصفوف ويصطفون مع الأزهر والكنيسة للتصدى للإخوان والسلفيين، بل إن الفوضويين الذين ارتأوا أنه من الضرورى أن يقلب كل شىء رأسا على عقب، علا صوتهم أيضا ولم يخفوا شيئا فى صدورهم. فى هذه الأجواء رأينا المجلس العسكرى وقد تراجع إلى الظل بصورة نسبية، وأعطى انطباعا بأنه على مسافة واحدة من الجميع. وان كنت أظن أن الأمر ليس كذلك بالضبط، ولست واثقا من صحة الشائعات التى تتحدث عن تباينات فى مواقف أعضائه، لكن المؤكد أن المجلس مسرور لما يشاهد، على الأقل لأن المتعاركين انصرفوا عنه وحولوا مسار التراشق نحو بعضهم البعض، الأمر الذى سمح له بالتحرك فى هدوء دون أن يلحظه أحد. أن نمارس فنخطئ ونصيب، لكى نتعلم وننضج سياسيا، أفضل ألف مرة من أن نقف متفرجين طول الوقت، ونتحول إلى قطيع فى عالم الأمم وأطفال رضع فى عالم السياسة.


مواضيع مرتبطة

التعليقات


الاستفتاء

اعلان ممول


المواقع الإجتماعية

القائمة البريدية