حاول واحد ممن أصيبوا بالشلل في أثناء ثورة 25 يناير أن ينتحر في الأسبوع الماضي، ولكنه أُنقذ قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. يأس الشاب من توفير نفقات العلاج ومن الحياة البائسة التي أصبح يعيشها، وأدرك أنه أصبح عبئا على أسرته وأنه بات بغير مستقبل بعدما تبخرت كل أحلامه وأسودت الدنيا في عينيه. وهو ما أقنعه بأنه إذا ما انتحر فإنه سيضع حدا لعذاباته وعذابات المحيطين به. لم يكن وحده الذي ألّحت عليه فكرة الانتحار، لأن الفكرة تراود أغلب الذين أصيبوا بالشلل وتحولوا إلى جثث هامدة وهم في عز شبابهم. إلا أن صاحبنا ذاك كان أكثر جرأة من نظرائه. هم يحسدون الذين ماتوا لأنهم نجوا من العذاب والمهانة،بل يحسدون أيضا غيرهم من ضحايا الثورة الذين أصيبوا بعاهات مستديمة باستثناء الذين فقدوا أبصارهم. حيث لا يزال بمقدورهم أن يتحركوا دون أن يحملهم أحد ودون أن يتوسلوا إلى غيرهم لكي يقوم بذلك. الشلل جعلهم في منزلة بين المنزلتين، فلا هم ماتوا ولا صاروا يعدون بين الأحياء. كتبت من قبل عن واحدة منهم، راندا سامي الممرضة التي حمت بجسدها جريحا كانت تداويه، وتلقت بدلا منه ضربات الجندي غليظ القلب الذي انهال على ظهرها بهراوته حتى كسر عمودها الفقري. ومنذ ذلك الحين انتقلت من عالم الأحياء إلى عالم نصف الأموات، وأودعت مركزا للتأهيل أضاف إلى بؤسها بؤسا جديدا. وتركت في بيتها طفلين في رعاية الله. حين نشرت قصة هذه السيدة العظيمة، تلقيت اتصالات عدة من رجال ونساء يريدون أن يقدموا لها يد العون، وخطر لي أن أدعو إلى إنشاء صندوق لرعاية أصحاب الحالات المماثلة، من الرجال والنساء الذين أصيبوا بالشلل الرباعي، لأن وضعهم أسوأ بكثير من أوضاع غيرهم من المصابين. وقيل لي إن حالاتهم أكبر من أن يعالجها صندوق. لأن تكلفة علاجهم وتأهيلهم عالية، وأغلبهم يتطلب سفرا إلى الخارج، حيث إمكانات التأهيل أفضل بكثير منها في مصر. ثم إن العلاج يتطلب انتظاما فيه لفترة قد تصل إلى عدة أشهر، الأمر الذي يضاعف من الأعباء المالية عن الجهة الممولة أو الراعية. أتوقف هنا لكي أسجل ملاحظتين : - الأولى أنني إذا كنت قد نشرت قصة راندا سامي. وقبلها قصة عبدالهادي فرج، فإن غيري قام بأفضل مما فعلت في صمت النساك وزهد المتصوفة وتفاني الشهداء،أعني بذلك أولئك النفر من النساء والرجال النبلاء الذين وقفوا إلى جانب المصابين بكل ما يملكون من جهد ومال، منذ سقطت أول نقطة دم في الشارع المصري. هؤلاء كانوا ولا يزالون ثوارا منذ اليوم الأول. لكنهم اختاروا أن يظلوا جنودا مجهولين طول الوقت،وكانت الثورة بالنسبة إليهم عطاء مستمرا ولذلك تنزهوا عن أن يفعلوا ما فعله غيرهم، ممن أعطوا لبعض الوقت، ثم تفرغوا للأخذ والكسب بقية الوقت. - الملاحظة الثانية أنني لا أخفي شعورا بالخجل لأنني ما تعرفت على مثل تلك الحالات إلا بعد نحو عام من قيام الثورة. لكني لا أعفي وسائل الإعلام عندنا لأن أغلبها شغل بالإثارة وبملاحقة المهرجين الذين حولوا الثورة إلى دكاكين للبيع والشراء، ومسرح لممارسة النجومية. اتصلت هاتفيا بالدكتور حسني صابر رئيس المجلس القومي لرعاية الشهداء والمصابين فقال لي إن المصابين بالشلل الرباعي أثناء أحداث الثورة عددهم الآن 24 شخصا، مصححا ما ذكرته ذات مرة بأنهم 12 شخصا وفهمت أنه لا توجد ميزانية خاصة لعلاجهم، وأن ثمة حسابا مفتوحا (500500) لأي إسهام في علاج مصابي الثورة، أضاف أنه تم هذا الأسبوع الانتهاء من صرف تعويضات أغلب أسر الشهداء. (نحو 5000 أسرة) وسيبدأون في صرف معاشات مصابي الشلل الرباعي بواقع 1720 جنيها شهريا لكل منهم، وسيتخصص لكل واحد منهم سكن بالطابق الأرضي كما ستوزع عليهم كراس متحركة في إطار الرعاية المفترضة. حين نقلت هذه المعلومات إلى أحد ذوي الصلة بالموضوع فكان رده أن تلك وعود تتعلق بالمستقبل تطلق بعد عام من الأحداث. وأضاف أنه تلقى شكاوى من بعض المصابين ذكرت أنهم وعدوا حقا بتسلم الشقق بشرط أن يدفع الواحد منهم سبعة آلاف جنيه مقدما، وهو ما يعجز عنه أغلبهم إن لم يكن كلهم. وحين رجعت في ذلك إلى الدكتور حسني صابر كان رده أن مصابي الشلل الرباعي ستوزع عليهم المساكن بلا مقابل إذا كان عجزهم كليا. لا تزال تلح عليَّ فكرة إقامة صندوق خاص لمصابي الشلل الرباعي، وأتمنى أن ينال الموضوع حقه من الدراسة قبل أي خطوة. وليته يلقى اهتماما من جانب إحدى لجان مجلس الشعب، الذي لم نلمس له جهدا في هذا المضمار. وحبذا لو زارتهم لجنة المجلس في مراكز التأهيل التي يعالجون فيها لإنقاذهم من المعاملة المزرية التي يلقونها فيها. * كاتب و مفكر مصري


مواضيع مرتبطة

التعليقات


الاستفتاء

اعلان ممول


المواقع الإجتماعية

القائمة البريدية