الصورة التي طيرتها وكالات الأنباء إلى أرجاء الكرة الأرضية، وتصدرت أمس الصفحات الأولى لكبرى الصحف في العالم كانت للفتاة المصرية المحجبة، التي ألقيت على الأرض وأوسعها بعض «الأشاوس» ضربا بعصيهم حتى مزقوا ثيابها وكشفوا عورتها. وقد رأينا أحدهم وهو يركل بطنها العارية بحذائه، في حين جرها آخرون من زملائه من شعرها وثيابها، في مشهد يقشعر له البدن ويزلزل كيان أي ضمير حي، لم يكن أسوأ ما فيه فقط بشاعة المنظر ووحشيته، وإنما أيضا درجة الغل والقسوة التي تبدت في سلوك الجنود الذين ارتدوا الثياب العسكرية.


الصورة المروعة تصعق من يراها وتصيبه بالذهول والدوار. حيث لا يصدق أحد ــ مهما شطح به الخيال أو ذهب به سوء الظن ــ أن ذلك يمكن أن يحدث لمصري أو مصرية بعد عشرة أشهر من الثورة التي ما قامت إلا لكي تدافع عن كرامة المواطنين وعزتهم.

 

دعك من أن الصورة تحولت إلى فضيحة عالمية تشعر كل مصري بالخزي والعار. ولا أعرف ما هو شعور أعضاء المجلس العسكري أو حكومة «الإنقاذ» أو أعضاء المجلس الاستشاري الذين جئ بهم لكي يكونوا عونا للعسكر حتى تنتهي المرحلة الانتقالية،

لكنني أزعم أن الصورة سوّدت وجوه الجميع ولطخت صفحتهم بحيث ما عاد ممكنا أن يطمئن المرء أو يثق فيما يصدر عن أي من هؤلاء جميعا.


أدري أن البيانات والتصريحات الرسمية تحدثت عن مندسين ومخربين وبلطجية، وهو ما لا أستبعده ولدي استعداد لتصديقه مؤقتا. لكن هذا الذي رأيناه في الصورة الصاعقة لا ينبغي أن يمر دون اعتذار وحساب وعقاب، ولا أعرف إن كان ذلك كافيا أم لا، لكن من حقنا أن نعرف من هؤلاء ومن الذي أصدر إليهم أوامر الانقضاض على المتظاهرين واستباحة كرامتهم وأعراضهم ودمائهم بهذه الصورة البشعة التي أزعم أنها أهانت المصريين جميعا.


لقد أحسنت صحيفة «التحرير» حين أبرزت الصورة على ثمانية أعمدة واحتلت رأس الصفحة الأولى أمس، وأحسنت أيضا حين ذكرت إلى جانب الصورة أن «المجلس العسكري ينفى إطلاق الرصاص ــ والجنزوري يقول إنه لم يلجأ إلى العنف»

ــ وتحت هذا الإعلان نشرت الصحيفة كلمة «كذابون» بحروف كبيرة ولون أحمر فاقع، وهو وصف ما تمنيت أن يذكر، لكني وجدت أنه في اللحظة الراهنة التعليق المهذب الوحيد الذي يمكن أن يذكر إلى جانب الصورة.


أدري أن صورا أخرى ليست أقل بشاعة نشرتها صحف الصباح أمس، وكلها تعد تكذيبا عمليا قاطعا لكل ما صدر من بيانات أو إيضاحات رسمية حول ما جرى، الأمر الذي لا أشك في أنه أحدث أزمة ثقة عميقة بين الجماهير وبين كل القائمين على الأمر في البلد هذه الأيام. حيث لا نستطيع أن نبرئ ساحة أي واحد منهم مهما صدر عنه من أعذار ومهما كان موقعه.


لقد رأينا صورا على شبكة التواصل الاجتماعي قيل إن المجلس العسكري بثها ليثبت أن هناك مؤامرة تخريبية استهدفت أحداث الفتنة في البلد، التي طالت مبنى المجتمع العلمي المصري وأدت إلى إحراق نفائسه التي تشكل مساحة كبيرة من الذاكرة المصرية.

 

لكن من حقنا أن نتساءل عن تلك المؤامرة الجهنمية التي فشل المجلس العسكري في إحباطها، وعجزت الأجهزة الأمنية في البلد عن أن تمسك بخيوطها طوال الأشهر العشرة الماضية.

من حقنا أن نتعرف على أدلة المؤامرة، وأن نطالب بمحاسبة الذين فشلوا في وضع حد لها، ثم إننا إذا قبلنا جدلا بقصة المؤامرة، فإن وجودها لا يسوغ ذلك الانقضاض الوحشي على المتظاهرين، وتلك المعاملة غير الإنسانية للذين تطولهم أيدي الجنود الذين تعاملوا مع شباب مصر وبناتها باعتبارهم سبايا و«أعداء» ينبغي إذلالهم وسحقهم.


حتى الاعتذار الآن ما عاد مقبولا ما لم يقترن بمحاكمة المسؤولين عن قمع المتظاهرين واستباحتهم. بالأخص أولئك الذين أصدروا الأوامر. ولا يكفي ذلك أن تلبس التهمة لجندي أو ضابط صغير، لأن الكبار هم الذين يصدرون مثل هذه التعليمات.


لقد كان ملفتا للانتباه أن تفجير الموقف في ميدان التحرير الذي أدى إلى قتل نحو أربعين مصريا تم متزامنا مع المرحلة الأولى من الانتخابات التشريعية،

 أما محاولة فض الاعتصام من أمام مجلس الوزراء هذه المرة فقد جاء متزامنا مع المرحلة الثانية،

ولا أعرف ما الذي ينتظر المرحلة الثالثة، لكني صرت أشك في هذه المصادفة. الأمر الذي دفعني إلى التساؤل عن هوية ومقاصد الذين يدبرون أو يفتعلون تلك الحوادث.


ليس أمامنا الآن سوى أن نطالب بالإسراع بخطى رحيل المجلس العسكري، الذي طغت مشاعر رفض سياساته في الوقت الراهن على مشاعر الود والتفاؤل الذي استقبل بها حين أعلن انحيازه إلى مطالب الشعب الثائر.

 

بالتالي فلا مفر من الانتظار لعدة أسابيع حتى تتم المرحلة الثالثة من الانتخابات، لكي يكون بمقدورنا أن نطالب المجلس العسكري بالرحيل، إذ يصبح لدينا كيان منتخب بديل نستطيع أن نقول إننا اخترناه، وبوسعنا أن نحاسبه، لأننا لا نعرف الآن كيف نحاسب المجلس العسكري، وإن كنا نظن أن حساب التاريخ معه بعد الذي جرى سيكون عسيرا

 


مواضيع مرتبطة

التعليقات


الاستفتاء

اعلان ممول


المواقع الإجتماعية

القائمة البريدية