انتهينا في الأسبوع الماضي الى أن رئيس الدولة الذي أصبح غير صالح لرياسة الأمة لظلمة الناس أو لارتكابه أمرا نهى الشرع عنه يقتضى فسقه ، هذا الرئيس مستحق للعزل من منصبه باتفاق العلماء. ولكن يأتي التساؤل التي طرحناه بداية: هل يجوز للأمة أن ترفع السلاح علي الحاكم لإجباره على أن يتنحى عن منصبه؟، أم ماذا تفعل ؟، وكيف تتم مناصحة الحكام المسلمين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر؟. لقد اختلف علماء الأمة وفقهاؤها في هذه القضية وانقسموا إلى اتجاهين: الاتجاه الأول: يرى عدم جواز رفع السلاح لخلع الحكام وولاة الأمر، وان جاروا، وإنما يجب وعظهم وتخويفهم من عقاب الله تعالى. وهذا الرأي هو اتجاه جمهرة علماء الأمة الإسلامية على مر العصور، فقد قال به أكثر أهل السنة من الفقهاء وعلماء الحديث وعلماء التوحيد، ونقل هذا الرأي عن الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة في عهد عثمان بن عفان، رضي الله عنه، ومنهم سعد بن أبى وقاص وإسامة بن زيد وعبدالله بن عمر ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهم، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله تعالى. وذهب أصحاب هذا الرأي إلى انه لا يجوز سل السيوف لأمر الحكام بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وإنما يكتفي عند هؤلاء بنصحهم ووعظهم أو بإنكار منكرهم بالقلب، ولا تستعمل معهم اليد، كما ذهب هؤلاء إلى أنه يجب معاونة الإمام العادل للتغلب على من يقوم عليه من الفسقة وأهل المنكر. فالأكثرية العظمى من علماء الأمة الإسلامية قالت بعدم جواز الخروج بالقوة على الرئيس الأعلى للأمة، وإن كان جائرا بل إن بعض العلماء المشهورين ومنهم الإمام النووي أحد اشهر علماء الفقه والحديث نقل إجماع العلماء على عدم جواز الخروج على رئيس الدولة ولو كان ظالما، ولعل ذلك يرجع إلى أن مسألة الخروج على الحاكم كانت محل خلاف بين العلماء في بعض العصور الإسلامية الأولى، ثم اجمع علماء الأمة الإسلامية بعد ذلك على عدم جواز الخروج على رئيس الدولة، ومما يؤكد ذلك ما نقله القاضي عياض من أن الخلاف كان أولا، ثم حصل الإجماع من العلماء على عدم جواز الخروج بالسلاح على رئيس الدولة. كما أن التاريخ يؤكد ذلك، فمن المعروف تاريخيا أن الحسين بن على بن أبى طالب، رضي الله عنهما، خرج بالسلاح على يزيد بن معاوية، وكذلك خرج عبد الله بن الزبير على عبد الملك بن مروان أحد خلفاء الدولة الأموية، وكان مع كل منهما جمهور كثير من سلف الأمة، وان كان بعض العلماء يرى أن الحسين بن على لا يعد رفضه لخلافة يزيد ورفع السلاح عليه، خروجا على حاكم تثبت له الرياسة بمبايعة كل الأمة له لأن أهل الحجاز لم يسلموا له الخلافة لكونه ظالما فاسقا، ولا يحكم بأنه حدث خروج على رئيس الدولة إلا إذا كان قد ثبتت له هذه الرياسة. وقد استدل القائلون بعدم جواز الخروج على الحاكم بجملة من الأحاديث التي تأمر الرعية بالسمع والطاعة ومنها: ما رواه الشيخان عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه – قال: «دعانا رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، فبايعناه فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا، وأن لا ننازع الأمر أهله قال: إلا إن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان». ومعنى الحديث كما قال الإمام النووي: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم وقولوا الحق حيث ما كنتم، وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وان كانوا فسقة ظالمين. ما رواه مسلم عن أم سلمة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، انه قال: «انه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم قال: لا ما صلوا»، قال النووي إن قوله صلى الله عليه وسلم: «ما صلوا» يعنى عدم جواز الخروج على الخلفاء بمجرد الظلم أو الفسق ما لم يغيروا شيئا من قواعد الإسلام. ما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: قال لنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترون بعدى أثرة وأمورا تنكرونها قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟.. قال «أدوا اليهم حقهم وسلوا الله حقكم» ما رواه مسلم عن حذيفة بن اليمان قال: قلت يا رسول الله أنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه فهل من وراء هذا الخير شر؟.. قال: نعم، قلت: كيف؟.. قال: يكون بعدى أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلت: كيف اصنع يا رسول الله ان أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع الأمير وان ضرب ظهرك واخذ مالك فاسمع وأطع». ما رواه مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي أنه قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم قالوا: قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟.. قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة.. لا ما أقاموا فيكم الصلاة، إلا من ولى عليه وآل فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة». ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر، فانه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية». وقد قال القسطلاني عند شرحه لهذا الحديث: فليصبر على جوره وظلمه والأمر بالصبر يستلزم وجوب السمع والطاعة. وهذه الأحاديث وغيرها، التي استدل بها أصحاب الاتجاه الأول في هذه القضية، تدل على أنه لا يجوز الخروج على الحكام، وان جاروا وفسقوا، ولا يجوز منازعتهم السلطان وأخذه منهم وجعله لغيرهم إلا أن يخرجوا من ملة الإسلام أو يتركوا الصلاة وإقامتها بين الناس، وقد علل أصحاب هذا الاتجاه النهى عن الخروج عليهم وان كانوا ظلمة فاسقين، بأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فيجب دفع الفساد الأعظم بالتزام الفساد الأدنى سيرا على قاعدة ارتكاب أخف الضررين.


مواضيع مرتبطة

التعليقات


الاستفتاء

اعلان ممول


المواقع الإجتماعية

القائمة البريدية