يقدّم الروائي الأردني غسّان العلي في روايته "أهرميان" عوالمَ فنتازية،تبتكر تجريباً جديداً ذا حساسيةٌ عاليةٌ تعبّر عن وعي خاص تجاه الأشياء سواء في الشّكلِّ أو المضمون، وهذا الوعي يقوم على تقنيات كسر الترتيب السّردي ، وتجاوز العقدةِ التقليدية ، والغوص إلى الداخل،والتعلّق بالظاهر ،وتوسيعِ دلالة الواقع لكي يعود إليها الحلمُ والأسطورة والشعر،ووضعِ المعجز والخارق موضعَ الحقيقةِ المسلم بها دون دهشة ،والانفتاح على عوالمَ وأكوانٍ ما تحت الوعي ،أمّا الزمن فقد أصبح عنده محطّماً ومهمّشاً ضمنَ توافق نادر .

       وهذه الحساسيّة الفنتازية عند العلي تسقط الحدود بين شطحات الخيال والاستيهامات ونسيجِ الواقع ،و ترصد عالمها المتخيّل من جذاذات وكسر هذا العالم الذي نعيشه ،وتدمجُ الواقع باللاواقع متحدّية الأعرافَ السردية السائدة مكتسبة سحرها من كونها نتاجِ الخيال ، لا الملاحظة الواعية وحدَها ، انطلاقاً من أنّ تخيّلَ الأشياءِ يدلّ على قوة لا يمكن تفسيرها،وهذا الخيال المجنّح الذي يدخلنا في عوالم غير طبيعية يستفيد من خيالات الوهم وتهويمات التفسير،وبذلك يخترع  واقعاً جديداً  بمعنى أو بآخر لكن في ظلال سحرية خيالية .

        ومايعني هذه الدراسة هو توظيف كلّ هذه التجديدات  للسّرد الفنتازي عند العلي، وتفكيكها لإعادة بنائها ضمن سردياتها المختلفة ، وتوليدها لعوامل أخرى وشخصيات غير نمطية ،وعلاقات سردية وبنائية تتخطّى التقليدي وتكسّر الرتابة .

     ولايقدّم العلي في فنتازية روايته هروباً من عالمه الحقيقي،إنّما يقدّم شكلاً هو وسيلة للتخلّص من التصورات المعتادة والمفاهيم المتوقعة الرتيبة لرسم خفي لعالم ملعون بالكبت والرعب والقسوة والحرمان التي تضطلع جميعاً بحرق أرواح البشرية.

    ويبدو أنّ الفنتازية عند العلي تملك ذكاء سردياً خاصاً يجعلها قادرةً على تقويض البنى والخطابات والنظم السياسية الضاغطة والمستلِبة ، التي تمثّل الآخر،  عن طريق اختراقها فنياً ورؤيوياً وعدم الاستسلام لسلطانها المهيمن على الوعي الاجتماعي،فهو يلجأ إلى  عوالم الأحلام والقرين والجن والمخلوقات العجيبة كي يعبّر عن هذا العالم ، وكأنّه يمرّ في هذه الحياة مروراً سريعاً ، ولكن الأجمل هو العالم الآخر،معتمداً في ذلك على تضخيم الإحساس سواء كان هذا الإحساس إيجابياً أم سلبيّاً، وتوقيف العمل بالمعاني الاعتيادية، والنزوع إلى كلّ ما هو غريب وعجيب وخارق وقلق وحالم ومشوّش ومنغلق على التفسير المنطقي أو التراتبي الذي يدين لقوانين هذا العالم الذي كفر بعقله، وانحاز إلى الجنون، فحقّ للعلي شأنه شأن الكثير من الأدباء أن يعبروا عن جنونه بجنون مضاد، يندّد به وبسطوته الغاشمة.

       والعلي يزجّ بنا في عوالم فنتازية روايته ابتداءً من غلاف روايته، الذي يجعله لوحة قائمة على استثمار ملكة" ستيريوبسي"،وهي ملكة طبيعية يملكها كلّ إنسان، إذ يستطيع أن يدرك عبر إحكام مهارتها في الرؤية أن يرى البعد الثالث للأشياء من خلال بعدين،وذلك بعد مران طبيعي يستثمر ليونة العين لاسيما عند الأطفال، ليجعلنا نخلص إلى رؤية أعمق وأصدق، وأبعد من النظرة السطحية للأشياء التي توفرها لنا النظرة السريعة ذات البعدين. ومن يدقّق في اللوحة من خلال استثمار هذه الملكة سيرى نجمة خماسية، وهي رمز من رموز الشيطان، وإن زيدت زاوية، فستصبح سداسية، وهي رمز لقوى الشّر العنصرية الصهيونية التي تشكلّ هي الأخرى أداة من أدوات قتل الحياة، وقتل القمح وتحريمه على الأرض العربية مزروعاً ومخزوناً، وتجعل زراعته حكراً عليها.فلا عجب إذن أن تحمل اللوحة رقم 13، وهو رقم الشؤوم المثيولوجي، ورمز الشّر والخراب، مادامت تنفتح عن سرّ الخراب، وأساس البلوى.

    وفي اللوحة الغلاف، التي تحمل اسم " المناب" في الرواية، وتفتن كلّ من يراها في معرض الفنان صارييل  أهرميان،يكمن لغز الرواية ومفتاحها وهدفها الأساس الذي يتجلّى بكلّ وضوح في إهداء العلي لروايته، إذ يهدي الرواية لابنه ولجيله الذي يتمنّى أن يستطيعوا أن يجدوا الكنز المدفون في تراب الوطن، ونحار ماهو هذا الكنز، وندخل في رحلة روائية طويلة مع جابر المتروك وسعد الخيشان الحالمين بالكنز المدفون في الأرض، واللذين يخوضان تجربة مريرة ومعنّاة من أجل فكّ رصده، والوصول إليه، ويقبلان بشرط الشّيخ الطيّب مقدّس السّفر بحمل أكياس القمح الثلاث مقابل أن يأخذهما في رحلة مخترقة الزمن من أجل الوصول إلى الكنز، وذلك مطاردة لحلم جد سعد في الزمن الغابر الذي كان يعرف أنّ هناك كنزاً ما في أرضه،ثم يكتشف الحالمان الكنز، وماذا يكون؟ يكون بلا شكّ القمح الذي تزرع به الأرض فتنبت خيراً وبركة تضمن ديمومة دورة الحياة والنّماء، وتبدّد الموت المتمثّل في موت ديمة جابر المتروك التي قتلها والدها دون قصد عندما احترف تجارة الموت، أعني تجارة الهيرويين بدل أن يعكف على زراعة أرضه ، وإطعام شعبه، وإفادة أمته.

     وهذا المدخل الفنتازي هو الخيط الفنتازي الذي سيشكّل كلّ محاور السّرد في الرواية، ويشدّها إلى بعضها في لحم مشظّاة، تشير إلى الضياع والفقد والقلق، بنفس القدر الذي تسم به الواقع بالنّقص والهزيمة والخراب، وإن كانت تشي في الوقت نفسه بلحمة داخلية قائمة على التفتيت والتشظّي والتكسير في الأزمان والتسلسل الطبيعي لها من أجل استدعاء العام والشامل والكوني قي تجربة إنسانية عربية بلا شك تقول بصراحة إنّ البلاء  يكمن في هجر الأرض، والبحث عن الثراء والرفاه المصنوع على رفات خير الوطن وإنمائه وتحصينه بمنتجاته ومحصّلاته ومقدّراته.

      وتقدّم الرواية عبر لوحات فنتازية مشظّاة تعرض تباعاً في معرض الفنان أهرميان، وهي لوحات للوهلة الأولى تعرض لعباً وخدعاً بصرية وحيل ضوئية للقارىء أو المشاهد السّريع العابر على عجالة، ولكنّها في الحقيقة ليست إلاّ لوحات "ستيروبسي"، تعطي الحقيقة كاملة لمن يدقّق النّظر في البعد الثالث، ولعلّه بعد الحقيقة، فيرى المشاهد واقع عالمه المهزوم المقموع الواهن القائم على شفا حفرة نار، مقابل لوحات الحصاد، وهي لوحات الحقيقة والحياة التي لا تريد بعداً ثالثاً للرؤية ، ولا تحتاج إلى مهارة " ستيروبسي" أو خدع البصر والظلال.

      ولذلك يقول العلي في مشهد البداية في الفصل الأخير من روايته " التفاصيل كلّها هنا،في لوحاته المعلّقة على الجدران" مؤكداّ أنّ الحقيقة تسكن في لوحات القمح، وهي لوحات الحياة التي أسماها تباعاً الحصاد " لوحة الموت والولادة"، الدّراس " لوحة الألم واللذة" والذّراوة "لوحة الرّيح واللثام "والكربلة " لوحة العزم" والكِيالة " لوحة الحساب".راسماً بلوحاته صور الزراعة والحصاد عبر مراحلها جميعاً، وهي مراحل وأسماء نسيها الجيل الجديد أو كاد، ولذلك ضاع وأصبح منسياً.

    وذلك في إزاء لوحات البداية التي ما هي إلاّ لوحات الخراب والضياع والجوع والهزيمة، وهي إن كانت حقيقة فهي سراب أو خيال ممجوج ملعون، يمكن التعاظم عليه ومحوه عبر تبنّي لوحات الحياة في الفصل الأخير من الرواية، وهي لوحات القمح، إذن فرواية أهرميان تتبنّى منذ البداية المفارقة والمخالفة أساساً فنتازياً حالماً ومقلوباً للحقائق، فالعلي يسمّي روايته أهرميان نسبة إلى سبب الخراب والدمار والضياع، ولو رمزياً في الرواية، فهو المسؤول بشكل أو بآخر عن سرقة الكنز من جدّ سعد، والاختفاء به، وحرمان الجد وحفدته من حقهم الطبيعي فيه،ولذلك هو لوحة الخراب، ومادام الخراب قائماً فالأولى أن يسمّى به، وهو خراب يمكن أن يسكن كلّ نفس لا تعرف وظيفتها ودورها في الحياة، مثل جابر المتروك .ولا عجب عندئذ أن يكون جابراً هو صورة أخرى لأهرميان، أو بعبارة أخرى أهرميان هو الصورة السلبية والشريرة المفترضة أو الحقيقية لجابر مادام لا يزرع أرضه،ويتاجر بالهيرويين،ويقتل أبناء وطنه ممثلين جميعاً بقتله دون قصد لابنته ديمه التي بات رحيلها رحيل للأمل،  وقتل لمستقبل الأمة كاملة.

     أمّا إن تعاظم جابر وجيله على الهزيمة، وعرفوا أنّ الكنز الموعود في الأرض، عندها فقط، سيصبح الاسم المفترض للرواية هو جابر المتروك، الذي يجبر المكسور، ويغدو تاركاً للانكسار لا متروكاً، ويحقّ له أن يحظى بفرصة جديدة،وبميلاد جديد لنسله، فيوهب ديمة من جديد من المرأة الأسطورية عيشه التي تسكن حكايات الجدّة ذيبة السلمان، والتي يقترن بزوغها في أغاني الأطفال بنزول المطر، حيث تحمل الحياة للأرض والزّرع، فتلد له ديمة من جديد، التي يستقبلها بيديه، ويزفّها إلى الحياة بقطع حبلها السّري بمنجله رمز الزراعة والحياة والأمل والتعالي على الانكسار والتشظّي الذي ينحلّ وينكسر في نهاية الرواية على عكس بدايتها، ليغدو التماسك والوضوح صفة للنهاية المأمولة إن أجاد الجيل الاختيار في مقابل التشظّي والانكسار والتيه وضياع الطريق في لوحات بداية الرواية حيث الخيار الخطأ للجيل العربي المسروق من أهدافه السامية ومن قيمه الأخلاقية والوجودية المبتغاة لغد أفضل.

      وذلك العالم المشروخ في رواية العلي يستسلم طائعاً أو مكرهاً لضوابط عالم فنتازي يتفلّت من ضوابط العالم الواقعي، وينفتح على كلّ غرائبي وعجائبي وحلم وأسطورة وخرافة ووهم وخيال،ليقبل بمحدّدات عالم مجنون، سمته الفوضى والقلق مادام قبل منذ البداية بالنكوص والتخاذل والغبن.ولذلك تنفرج الرواية على الفعل " تاه " الذي يتكرّر في الرواية حاملاً معنى "يتوه" ، مادام زمن القصّ بمستوياته الثلاث لايملك إلاّ أن ينكسر أمام الهزيمة والبحث اللاهث المجنون عن كنز أسطوري لا يكون إلاّ في عقول السخفاء وباغي رفاه الفراغ والكسل والدّعة المنعّمة.

    وهذا التائه هو البطل المفترض للأحداث السّردية الحكائية التي تتناوب الجدة ذيبة السلمان أم جابر المتروك على روايتها لجابر وجيله، لعلّها تملك الحقيقة عبر القصّ، وتملك لها ولأبنائها ولأبناء كلّ الأمة الاستمرارية وأمل الحياة عبر قصصها التي تؤّرخ للأمل، وتذكّر بالنًور والرفض، وتعد بالجمال والنّماء والمستقبل الجميل مادام هناك فرسانٌ يتقنون القصّ والتذكّر والحلم ومن ثم العمل.

    وبطل حكايات الجدّة أم جابر المتروك بطل خالد لايموت، من فنائه يصنع الحياة،ومن فعله تكون البدايات، فهو من شقّ بشبريّته يقطينة سحرية، فخرجت منها مدن وأناس وحياة مدينة زائفة سرقت الجميع من الأرض، وهو من قاوم الموت والنزيف الدامي، ونزع حياته من براثن الموت اللئيم، وهو من سكب روحه في سلالة جابر المتروك التي غدت سلالة لا تموت.

    وفي إزائه شخصيته الفنتازية الموغلة في أسطورية الواهب للحياة، تظهر الشخصية اللغز في الرواية، وهي شخصية " أهرميان" التي لا نستطيع أن نفهما إلاّ في ظلال رموز لوحات معرضه، وهي لوحات الموت والضياع والخديعة والألم والشّر، مقابل لوحات الحياة والقمح والخير والنماء في الفصل الأخير من الرواية حيث مشاهد الزراعة والحصاد والخير، وهذان التجمعان من مشاهد الموت في البداية والحياة في النهاية يصنعان زمناً فنتازياً اسطورياً دائرياً مقفلاً ،يبدأ من حيث ينتهي، وينتهي من حيث يبدأ راسماً دورة الحياة والموت، ومؤكداً صراع الخير والشّر، وانتصار الخير والحياة حقائق حتمية لجماليات الحياة ومعاني وجود البشرية.

     وأهرميان في الرواية يستولي على رصيد كبير من الإلغاز والإيهام والفنتازيا، فهو جن عمره كبير، يتقن الانتقال بين الأزمان، ويجيد السّرقة والاختباء، له طباع غريبة، يختفي شهراً في كلّ عام، لا يعرف أحد أين يذهب، يعيش حياة سرية كئيبة، ويملك موهبة عملاقة في الرسم، تجعل لوحاته مقصد كلّ قاصد، ويعيش في الزمن المستقبل من عمره ومن زمن الرواية، وإن كان في حقيقته يعيش الحاضر، ويؤرّخ للماضي، والكثير من القصص تدور حوله، كما تدور حول من يدورن في فلكه أو من يدورون في فلك صورته الآدمية الخيرة  المؤجلّة حتى عزمه على ذلك، أيّ جابر المتروك.

     وتتوسط الجدة ذيبة السلمان، والشيخ مقدّس السّفر فانتازية شخصيات الرواية،فالحاجة ذيبة المخلوقة من حجر قوي صلد هي كاهنة الحكايات وراعيتها، التي لا تتقن في الحياة غيرها، وتجعلها معيناً روحياً وأخلاقياً وتربوياً لأبنائها،في حين إنّ الشيخ مقدّس السّفر هو من يملك قوة سحرية عجيبة تجعله قادراً على السّفر من زمن إلى آخر، وهو كذلك القائد لرحلة الجيل الممثلة في رحلة جابر وسعد من الظلام إلى النور ومن الغيّ إلى الرشد ومن الجهل إلى المعرفة ومن الفقر إلى الغنى، فهو من يشترط عليهما أن ينقلا له ثلاثة أكياس من القمح عبر الأزمان على أن  يصحبهما في رحلتهما، وبذلك يكون السبب في أن يزرع جابر وسعد الأرض، ويكتشفان أخيراً أنّ الكنز موجود في الأرض، ولا شيء غير الأرض، وماهو الذهب والجوهر، بل هو الزرع وبركته.

     ولذك يهب العلي له الحياة لرحلته المباركة كما وهبه مسبقاً اسم مقدّس السّفر في إشارة واضحة وذكية إلى مآل الرحلة، وجمال الاكتشاف، وقدسية الأهداف ، وسمو النتائج، وبذلك توهب له الحياةُ والبعث من جديد في كلّ موسم دون كلل أوتعب أو شقاء  أو ألم.

    وفي هذا العالم الفنتازي تنحازّ كلّ الشخصيات والأحداث إلى الفنتازيا التي تؤسس عالماً خارجاً عن ضوابط عالمنا، فيقبل الأشخاص أصحاب الملكات الخارقة والمواهب العجيبة والحيوات الحالمة، والبدايات الأسطورية والنهاية الملحمية، كما يقبل التلاعب بالأزمان، والقفز بينها بيسر، واسترجاعها بشرائها من بقال أو مقايضتها بأحمال في السّوق، ويستسلم لإرادات الفاعلين وأعمال المجدين، فيهب الحياة لهم المرة تلو الأخرى، ويهبهم البعث الجميل المكترّر والخلود المنشود، ماداموا يستحقّونه بعملهم وريادتهم وسعيهم المحمود.

 وبعد؛

    فرواية " أهرميان " للروائي الأردني غسّان العلي هي تجربة ناضجة وتستحق الوقوف عندها طويلاً بما توافرت عليه من أدوات تجريبية ذكية استطاعت أن تجعل الفنتازيا أداة مطواعة لفهم الواقع بكلّ تناقضه وجموحه وانكساراته وأسئلته، مفترضة حلاًّ جريئاً وواحداً وأكيداً للخروج من عنق الزجاجة، وهو العودة إلى الأرض.

selenapollo@hotmail.com


مواضيع مرتبطة

التعليقات


الاستفتاء

اعلان ممول


المواقع الإجتماعية

القائمة البريدية