كما الجندي المجهول، يدفع دمه وروحه ولا يهتم بأن يتذكره أحد.

هى تبدو في بداية العشرينيات وهو قد تجاوز الستين.. الكتفان والرأسان متساندان.. واضح أنهما "ريفيان".

الوجهان باسمين، والظهران مستندان على باب دكان مغلق، نصف الجسدان في مدخل الدكان المنخفض عن الرصيف بربع متر تقريباً.. والنصف الآخر فوق الرصيف، يفترشان كرتونة ويتدفآن ببطانية مشتركة. المؤكد أن أحلامه أصبحت خلفه، وأنه جاء معتصماً ليحمي حقها في مستقبل أفضل. ذكرتني حالتهما بصداقة ربطت أبي وأختي الوسطى، مازلت أحلم بصداقة مثلها مع ابنة في رحم الغيب. في إحدى الليالي التي بتها بالميدان كنت أروح وآجي.. فقط لأتابع "حالة ودْوَدَة وحكي" بين من يبدوان أب وابنة.

مثلهما مئات الحالات، عائلات كاملة ومجموعات من الأقارب و"البلديات". نهاراً تجدهم كالنحلة.. يهرولون للهتاف خلف الشباب، ويشاركون في الحراسة ضد البلطجية وفي تنظيف الميدان، وليلاً يسمعون، أو يشاركون، بانبهار ممزوج باحترام للجدل السياسي وأحيانا الاجتماعي.. خاصة من ناشطات اليسار. بعد منتصف الليل، يلتحف أغلبهم السماء بعد جلسات سمر مع البلديات حول "رَقية" نار نقلوا أجواءها معهم من "البلد" للعاصمة.. لمصر كما يسمون القاهرة.

حين "يهزمهم" النعاس، يفترش الآلاف منهم الحدائق التي تتوزع في التحرير، ومئات منهم ينامون على الأرصفة.. في أوضاع "إعجازية". لم يعرفوا الخيام إلا بعد سقوط المطر في أسبوع الغضب الثاني، وكانت أغلبها خيام بدائية، لكن البطاطين انهمرت من المتبرعين بوفرة فاقت الاحتياجات الفعلية.

عائلات كاملة، أتت غالبيتها من محافظات الوجه البحري. وجماعات "بلديات" لبت دعوة "الفيسبوكيين" ونزلت يوم 25 يناير، ولم تعد غالبيتهم الساحقة حتى الآن. لثلاثة أسابيع لم يأخذوا استراحة محارب ليذهبوا، كما السياسيون والفيسبوكيون، إلى منازلهم للاستحمام أو لتناول وجبة "بجد" أو نومة مريحة.

تدهشك بساطة تقبلهم للوضع المُنهك والأوجه "المرتاحة نفسياً"، رغم الإرهاق وآثار التغذية السيئة البادية على أجسادهم. هم الجسم الغالب لثورة بهرت العالم، كتلة قابعة في الظل.. وراضية. فلاحون علموا أولادهم فتخرجوا إلى سوق البطالة، موظفون وعمال شركات قطاع أعمال وضحايا معاش مبكر.. وخصخصة، فشلوا جميعا في نيل حقوقهم مع عشرات الاعتصامات التي شهدتها القاهرة ومحافظاتهم، فكانت فرصتهم في نهر غضب 25 يناير الذي ضم كل الروافد.

المؤكد أنهم لن يعودوا إلى بلدانهم، فقط، منتصرين، فهم تمازجوا بعفوية الإقامة المشتركة، مع الآلاف من النخبة "اجتماعيا وسياسيا"، تعايشوا وتكافلوا ودافعوا عن حياة بعضهم البعض دون أن يعرف أحدهم الآخر. عادوا بروح مختلفة وبثقافة سياسية تعيان أن القرار لهم لا لغيرهم، وأنهم أبناء شعب عظيم يمكنه العزف معا، وأن التنوع السياسي والسلوكي والثقافي.. ثراء يقوينا لو أحسنا التكيف معه.

هؤلاء "العاديون"، ذكرونا بأن "الشعب.. هو المُعلم".

عادوا "مصريين".

خبط.. لزق

العربي القاهرية

الاحد 13 فبراير 2011


مواضيع مرتبطة

التعليقات


الاستفتاء

اعلان ممول


المواقع الإجتماعية

القائمة البريدية