التطوّرات الأخيرة التي تشهدها الساحة اللبنانية تدعونا للوقوف عندها واستدراك مضمونها، نظرًا لميزات لبنان وخصوصياته، وتشابه المشهد الذي يمرّ به بمشاهد مصيرية سابقة مرّت على الساحة العربية.

خلاصة التطوّرات اللبنانية الأخيرة تمثلت بإسقاط حكومة سعد الحريري بعد انسحاب 11 نائبًا معارضًا من الحكومة، كان من ضمنهم وزير الدولة عدنان السيد حسين المحسوب على رئيس الجمهورية. أتت هذه الاستقالة إثر إذعان فريق سعد الحريري للضغوطات الأمريكية والدولية التي حثّته على استمرار دعم المحكمة المختصّة باغتيال والده، وهو ما رفضه فريق المعارضة - ذو الأغلبية حاليًا - منذ بداية المحكمة، بحجّة أن المحكمة مسيّسة وتديرها أمريكا، وتستثني إسرائيل من قائمة المتهمين بالاغتيال بالرغم من وجود أدلّة تشير إلى تورّطها.

كانت الخطوة التي قامت بها المعارضة اللبنانية شرعية ووفق الدستور، ولم يكن هناك نزول إلى الشارع أو حتى احتجاجات، وبعد استشارات قامت بها الكتل النيابية تم ترشيح الوزير نجيب ميقاتي لرئاسة الوزراء، الذي شغل هذا المنصب عام 2005 بعد استقالة عمر كرامي إثر اغتيال الحريري. وقد تم تعيين ميقاتي لرئاسة الوزراء بشكل رسمي من قبل الرئيس ميشال سليمان، بعد أن حظي على 68 صوتًا نيابيًا من أصل 128 مقابل 60 للحريري.

ممّا يلفت النظر الأصوات التي خرجت حتى قبل تعيين ميقاتي للرئاسة بأن الحكومة المقبلة ستكون ألعوبة بيد حزب الله وسورية، وأنها تأتي ضمن المشروع الفارسي للمنطقة، وثمة من ادّعى بأن حزب الله يريد فرض "ولاية الفقيه" على لبنان فيما بعد. وحاول البعض إعطاء المشهد صبغة طائفية، وأن "سنّة" لبنان هم المستهدفون من إسقاط الحكومة، ضاربين عرض الحائط تعدّد وتنوّع الرؤى والأيديولوجيات والعقائد داخل المعارضة اللبنانية، وكون ميقاتي سنّيًا وسطيًا محافظًا بعكس غيره، بالرغم من تحفّظنا على كل التسميات الطائفية التي تركها المستعمر الفرنسي في لبنان، والتي هي دخيلة على الإسلام أصلاً، فالإسلام لا يعرف تقسيمًا وتفريقًا، والقرآن ذمّ أهل الفرقة وبرّأ رسوله منهم، وربط الفرقة بالشرك، وكل تلك المسميات تبث الفرقة.

المؤسف والخطير أن تصدر هذه الادعاءات عن جهات سياسية رسمية لبنانية، ممّا يثير الحقد والكراهية في نفوس الناس، خاصة في بلد كلبنان الذي شهد حروبًا أهلية مقيتة كانت المعادلة فيها الخسارة لأبناء البلد والربح لأعدائه.

الجدير ذكره أن هذه الادعاءات والنبرات الطائفية تتزامن مع الجهود الإسرائيلية الكبيرة لإعطاء ما يحصل في لبنان طابعًا طائفيًا، فوسائل الإعلام الإسرائيلية مجمعة على أن المعركة بين حزب الله "الشيعي" وأنصار الحريري "السنّي"، وبعض المواقع الإسرائيلية تتحدث عن أن نصرالله يهدد "أعداءه السنّة" في لبنان بقوّة السلاح.

إنما تلك الادعاءات الزائفة والأكاذيب المثيرة للفتنة لم تعد تقنع إلا أهلها، فبالرغم من محاولات تصميت دعاة المنطق والوحدة والانفتاح، والمؤامرة الإعلامية عليهم، أصبحت تلك الأصوات مسموعة وعالية رغم كل القيود، وهو ما يقلق البعض ويقضّ مضاجعهم.

السؤال المطروح إثر التطوّرات التي يشهدها لبنان والتغيير السياسي فيه، هو هل سيتعامل العالم مع الحكومة الوطنية الجديدة على نفس الأسس والمبادئ التي كان يتعامل بها مع الحكومة التي سبقتها؟

التاريخ الحديث يجيبنا سلبًا، إنطلاقًا من الانقلاب على الشعب وخياره في الجزائر بداية تسعينيات القرن الماضي وحظر جبهة الإنقاذ الإسلامية، مرورًا بالسودان المحاصر والذي يتآمر الإسرائيلي والأمريكي عليه، حتى الانتخابات الفلسطينية الأخيرة التي فازت بها حركة المقاومة الإسلامية "حماس" بالأغلبية، فتعرّض أهل غزة لحصار دولي "مشرعن"؛ ففي كل هذه النماذج المطروحة - بالرغم من اختلافاتها - رفضت "الشرعية الدولية" التي أشرنا إليها في مقام سابق، خيارات الشعب التي جرت وفق معايير ديمقراطية، ممّا يدل على وجود عدّة ديمقراطيات بالنسبة للغرب، وفي هذه الحالات كانت "الديمقراطية الانقلابية" هي الغالبة، وليس الانقلاب الديمقراطي.

لكن الزحف التحرّري الذي انطلق من تونس، ويمرّ في الجزائر، ويزلزل نظام طاغية مصر، ويثبت في غزة ولبنان، والذي قد ينتشر ليغيّر كل المنطقة، يدعو هؤلاء لمراجعة حساباتهم ومصالحهم الاستراتيجية، التي لم تعد تتعلّق بالأنظمة الفاسدة بقدر ما أصبحت متعلّقة بإرادة الشعوب الأبيّة


مواضيع مرتبطة

التعليقات


الاستفتاء

اعلان ممول


المواقع الإجتماعية

القائمة البريدية