التقيته فى الأقصر ضمن فعاليات مهرجان السينما الأفريقية ، عرفنى به صديق مشترك باعتباره فنانا ( تلقائيا ) ، أخبرته أننى ممن لا يحبون هذا الوصف ( فنان تلقائى ) لأننى لا أرى الفنان إلا تلقائيا. تجاوزنا سريعا خلافنا على الوصف وشرعنا فى الدخول إلى حوار سمحت به منطقة التدخين الضيقة فى مطعم الفندق .

اسمه سعيد الباجورى، دعانى إلى زيارة معرضه فى قصر ثقافة الأقصر المقام على هامش فعاليات المهرجان. وهناك فى بهو القصر استقبلنى بحفاوة كبيرة ورافقنى فى جولة بين معروضاته التى أبهرتنى دقتها وكثرة عددها. مراكب فرعونية بأحجام مختلفة، تشى كل منها بالجهد والصبر والدقة فى ضبط إيقاع التفاصيل الصغيرة.

أين تعلمت هذه الحرفة يا سعيد؟ سألته.. فابتسم وأجاب: علمت نفسى بنفسى، وأضاف: "بدأت خطوتى الأولى حين اكتشفت عشقى لتفاصيل الأشياء ورغبتى فى تقليدها بمواد بسيطة  كالورق أو الخشب. سيارة، دبابة،  شجرة، وجه .. وحين اكتشفت أننى مقلد لا بأس به استمرأت الأمر، وصرت كلما وقعت فى يدى سكينا أداعب بها ما أراه لأحيله إلى شكل يأتى كيفما يأتى. لكن الخطوة الأكثر جدية جاءت حين كنت أتجول مصادفة فى سوق العاديات بخان الخليلى، ولفت نظرى نموذج لمركب خشبى قال لى البائع إنه فرعونى. لكنى لم أصدق فإحساسى بالمركب أنه جاء مقلدا بغير تدقيق، فعدت إلى منزلى أبحث عبر حاسوبى عن مراكب الفراعنة وكلما شاهدت وقرأت كلما ازداد يقينى بأن ما رأيته عند البائع ما هو إلا مسخ مشوه لعمل عظيم .

ثم قمت بزيارات متعددة  لمتحف الهرم أشاهد بعين المتأمل  مركب الملك خوفو، مركب الشمس فظللت أدرس أبعاده وقمت بتصويره مئات المرات واستعنت بصور من شبكة النت حتى تمكنت من فك ألغاز تركيباته الإنشائية وشكله المخروطى وتماس قاع المركب مع سطح الماء، ثم قررت أن أصنع مركبا فرعونيا على شاكلة ما صنعه الأجداد لا ما قلده الصينيون. وبدأت وفشلت ثم كررت وفشلت وفى كل مرة أفشل بها أعيد البحث عن الأسباب فأغرق أكثر فى تفاصيل ملأتنى متعة ونشوة. ثم أخيرا صنعت نموذجا رضيت عنه وعرضته على الأصدقاء فانبهروا به وكانت البداية لأكون صانعا لنماذج صغيرة من مراكب الأجداد".

كنت أستمع إليه وأنا أتجول بين معروضاته، مبهورا بما أرى وبما أسمع. لكن انبهارى الأكبر كان حين عرفت أن سعيد كون ورشة لتدريب من يرغب من سائحين أو أهالى. ورأيت بنفسى كيف التف حوله مجموعة من السائحين يستمعون إلى توجيهاته وينفذونها بانصياع تلاميذ فى حضرة معلم خبير.

 سعيد الباجورى فنان مصرى من أولئك الذين يضعهم الله فى طريقك ليزداد إيمانك بأن على هذه الأرض أناس لا يعرفون اليأس، لا تلهيهم تفاهات الحياة عن استكمال ما آمنوا به وأحبوه، أناس تتعلم منهم دوما بأن اليأس خيانة وأن الفن حياة. 


مواضيع مرتبطة

التعليقات


الاستفتاء

اعلان ممول


المواقع الإجتماعية

القائمة البريدية