حين خُيِّر مجلسنا الموقر بين الانحياز إلى حقوق الإنسان التى ينتسب إليها أو الانحياز إلى الحكومة التى يعمل عندها فإنه لم يخذل الحكومة، وأعلن أنه معها، خصوصا وزارة الداخلية، «ايد واحدة». على الأقل فتلك كانت الرسالة التى تلقيناها فى ثنايا التقرير الذى أعلنه المجلس يوم الأربعاء الماضى (5/3) بخصوص وقائع فض اعتصام «رابعة» الذى تم فى 14 أغسطس من العام الماضى (2013). وحتى أكون أكثر دقة فإننى أزعم أننا تلقينا رسالتين مما جرى فى المؤتمر الصحفى الذى أعلنت فيه خلاصة التقرير، واحدة تتعلق بمضمونه والثانية تتعلق بدلالاته ومغزاه.

 

فى الشق المتعلق بالمضمون، حرص التقرير على أن يؤكد ثلاثة أمور. الأول أن المعتصمين هم الذين بادروا الشرطة بإطلاق النار والعدوان. والثانى أن المجموعات المسلحة التى تواجدت بين المعتصمين كانت السبب الرئيسى لزيادة أعداد القتلى. الثالث أن الشرطة حين قامت بفض الاعتصام فإنها التزمت بالمعايير الدولية المتعارف عليها. وكل من تابع وسائل الإعلام المصرية لا تفوته ملاحظة أن هذه النقاط الثلاث هى التى تم إبرازها فى الصحف والعروض التليفزيونية والإذاعية. وإلى جانبها كانت هناك بعض العناوين الفرعية التى وجهت نقدا خفيفا لوزارة الداخلية، أقرب إلى شد الأذن وعتاب المحبين، مرة لأنها ارتكبت بعض الانتهاكات، ومرة أخرى بسبب محدودية الوقت الذى أتاحته لخروج المعتصمين الذين كانوا عدة آلاف، إذ منحوا 25 دقيقة فقط لمغادرة محيط المسجد. إلى غير ذلك من الملاحظات التى أريد بها الإيهام بتوازن التقرير وعدالته، باعتبار أنه وجه الانتقادات للجانبين.

 

إلا أن من يقرأ التقرير يجد نفسه مقتنعا بأن المعتصمين يستحقون ما جرى لهم. وأن الشرطة مارست معهم أقصى درجات ضبط النفس. وأن الأولين لم يكونوا أشرارا مسلحين فحسب، ولكنهم أيضا مفترون وظلمة، آية ذلك مثلا أنهم قاموا ــ والكلام للتقرير ــ بقتل 11 شخصا تحت التعذيب. وهؤلاء توزعوا على اعتصامات رابعة والنهضة والعمرانية بالقاهرة الكبرى. وإذ بدا المعتصمون أشرارا على تلك الشاكلة، فإن الشرطة وحدها التى كانت منضبطة وملتزمة بحدودها. خصوصا المعايير الدولية المعمول بها فى الدول الديمقراطية والمتحضرة.(!!)

 

بسبب تلك «الوحشية» التى اتسم بها المعتصمون المدججون بالسلاح، ذكر التقرير أن عملية فض الاعتصام أدت إلى مقتل 624 مدنيا، 8 منهم من رجال الشرطة. وهى معلومة تثير تساؤلا مسكونا بالدهشة، لأن مجموعات المعتصمين المسلحة التى ادعى التقرير أنها اعتلت البنايات وتوزعت على المداخل والأرجاء، (تحدثت صحف تلك الفترة عن تسريبها أسلحة ثقيلة واستحواذها على أسلحة كيماوية) هذه المجموعات «الإرهابية» تم اكتساحها خلال ساعات معدودة بحيث قتل منها عدة مئات، وأصابها العجز والعمى بحيث لم يزد عدد ضحايا الشرطة التى اشتبكت معها على ثمانية أشخاص فقط.

 

من المفارقات أن التقرير ذكر أن الذين قتلوا فى فض الاعتصام 624 شخصا. فى حين أن المواقع المستقلة تتحدث عن أرقام أخرى مغايرة، ترتفع بأعداد ضحايا فض الاعتصامات فى القاهرة وحدها، أى خلال يومين أو ثلاثة، إلى أكثر من 1400 شخص، منهم 982 فى فض اعتصام مسجد رابعة وحده، بمن فيهم جنود الشرطة الثمانية. وهؤلاء الضحايا أسماؤهم منشورة على الانترنت، وقد بذل موقع «ويكى ثورة» جهدا متميزا فى هذا الصدد. ولو كان المجلس المذكور حريصا حقا على تقصى الحقائق، لرجع إلى تلك القوائم التى يتعذر الطعن فى صحتها.

 

لا يفاجئنا محتوى التقرير، ولا تدهشنا الملابسات التى أحاطت بطبخه، سواء ما تعلق منها بالتراخى فى إصداره أو التلاعب فى المعلومات التى أثبتها تجميع الباحثين، أو الخلافات التى أخرت المؤتمر الصحفى 3 ساعات بين أعضاء المجلس حول ما ينبغى أن يقال وما ينبغى ستره وعدم إذاعته. ذلك أن أحدا لا يتوقع أن يصدر تقرير من ذلك القبيل دون أن يمر بمصفاة الأجهزة الأمنية. وفى حدود علمى فإن عرض التقارير المتعلقة بحقوق الإنسان على وزارة الداخلية تقليد متبع منذ إنشائه فى عام 2003، وليس فى ظل المجلس الحالى وحده. بالتالى فلم يحدث أن خلا تقرير من ملاحظات للداخلية سابقة على صدوره، ولكن تدخلاتها اختلفت من حين إلى آخر.

إننا إذا أردنا أن نتصارح أكثر فى شأن دلالة المشهد فينبغى أن نعترف بأن منظمات حقوق الإنسان بعامة هى من تداعيات وإفرازات الممارسات الديمقراطية أو النضال من أجلها. وأن النظم غير الديمقراطية حين تنشئ المجالس المعنية بهذه القضية، فإنها تتطلع دائما لأن توظفها للتستر على انتهاكاتها لحقوق الإنسان وتجميل وجهها أمام العالم الخارجى. وهو ما لم يقصر فيه مجلسنا الموقر.

 

ومن يقارن التقارير التى يصدرها المجلس المصرى فى مثل الموقف الذى نحن بصدده بتلك التى أصدرتها المنظمات الحقوقية المستقلة فقد يخطر له أنها تتحدث عن بلدين مختلفين وليس عن حدث أو أحداث واحدة. بسبب ذلك ينبغى ألا نستغرب أن يجىء التقرير الذى صدر عن المجلس المصرى متبنيا موقف المؤسسة الأمنية ومبررا سلوكها، على النقيض مما رصدته المنظمات الحقوقية المستقلة، المحلية والدولية. من هذه الزاوية فلعلى أقول إن التقرير بالصورة التى قدمها بمثابة شهادة تثبت أزمة الحريات فى مصر. وفى حين أن معديه أرادوا تجميل وجه النظام إلا أنه جاء كاشفا لعوراته.


 


مواضيع مرتبطة

التعليقات


الاستفتاء

اعلان ممول


المواقع الإجتماعية

القائمة البريدية