عندما يطالع المرء كتاب "طبائع الاستبداد" للمفكر النهضوي عبد الرحمن الكواكبي، رحمه الله، يدرك على الفور نظرة هذا المفكر الكبير لواقع عاشته الدول العربية على مدي عقود، في ظل حكام وحكومات مستبدة، صنعتها الشعوب بأيديها، بتقاعسهم وتهاونهم في حقوقهم وخضوعهم للمستبدين في كل عصر. والمجتمع الذي يعاني من القهر والاستبداد السياسي وتحارب فيه الحريات ، ويكبل فيه أصحاب الرأي والفكر بالقيود والأغلال، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتقدم أو تتحقق فيه أي نهضة أو إصلاح، ذلك لأن الاستبداد هو العدو الأول للنهضة والتقدم والإصلاح.. ولذلك فان أول سبل الإصلاح والنهضة هو محاربة الاستبداد بكل صوره، وإيقاظ الوعي الإنساني، وعي الحرية والكرامة في نفوس العرب والمسلمين، وإذا استيقظ الوعي تبعه السعي والإقدام وزال فتور الهمم والعزائم، وهذا ما أحدثته الثورات العربية المباركة في الشعوب خلال الفترة التى نعيشها اليوم منذ مطلع العام الماضي. وطبائع الاستبداد خصصه صاحبه لهذه القضية الهامة، التي عاني ويعاني منها العرب والمسلمون عبر قرون عديدة، ويعتبر أول مؤلف في اللغة العربية يقوم بتشريح آليات الاستبداد ومفاعيله الفتاكة بالبنية الاجتماعية والثقافية والفكرية. وقد جمع فيه الكواكبي بين لغة الخطابة التحريضية الشديدة التأثير، كنداء للعمل ودعوة للنضال ضد الاستبداد، ووضع برنامجا للإصلاح يقوم على فكرة الحرية، واستهدف إيقاظ وعي الناس بالحرية والكرامة، فنجده يحلل نفسية المستبد ويعدد صفاته وأخلاقه مع أفراد شعبه، ويرى أن للاستبداد أثرا قويا على عقلية الأمة وعلى لغتها، ويدعونا الى دراسة اللغة في كل أمة إن أردنا أن نتبين مقدار نزوع أهلها الى الحرية أو خضوعهم للاستبداد، فيقول: ومن دلائل تغلغل الاستبداد في الأمة استكانة لغتها: فان كثرت فيها ألفاظ التعظيم وعبارات الخضوع دلت على تاريخها القديم في الاستبداد، ويلاحظ ذلك في اللغة الفارسية، وان قلت في اللغة ألفاظ التفخيم والتضرع دلت على تأصل الحرية فيها. وقوام النهضة عند الكواكبي، أمران أساسيان: الدين والعلم، الدين العامل، والعلم الواعي، وهو يقول في ذلك: ما أجدر الأمم المنحطة أن تلتمس دواءها من طريق إحياء العلم واحياء الهمة مع الاستعانة بالدين والاستفادة منه، ولذلك يدعو الى العمل والكفاح وإيقاظ الهمم ونبذ دواعي التواكل والاستكانة. ومصدر الاستبداد هو غفلة الأمة وتقاعسها عن محاسبة الحاكم، فما من حكومة استطاعت الإفلات من المسؤولية، والمؤاخذة بسبب غفلة الأمة، الا وتلبست صفة الاستبداد، مستعينة بجهالة الأمة.. فالأمة التي لا تستطيع تشكيل سلطة مراقبة تشريعية تراقب الحاكم وتحاسبه، يفلت الزمام منها، فيتحول الحاكم الى مستبد يتحكم في شؤون الناس بارادته لا بارادتهم، ويحكم بهواه، لا بشريعتهم ، فهو يتجاوز الحد ما لم ير حاجزا من حديد ، فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفا لما اقدم على الظلم. وينبهنا الى أن المستبد يود أن تكون رعيته كالغنم: دَرا وطاعة ، وكالكلاب تذيلاً وتملقا ، ويذكرنا كيف بني الإسلام ، وكل الأديان على "لا اله الا الله" ومعنى ذلك ، انه لا يعبد حقا سوى الصانع الأعظم... حيث ضرب هذا القول بكل التوسطات بين الفرد وربه ، ونزع القداسة لغير الله عن كل سلطة: دينية او حاكمة، فأعتق الإسلام بذلك عقل البشر عن توهم وجود قوة ما في غير الله ، من شأنها ان تأتي الإنسان بخير ما ، او ان تدفع عنه شرا. ولكن عندما سطا المستبدون والمرشحون للاستبداد على الدين ، اتخذوه وسيلة لتفريق الكلمة ، وتقسيم الأمة شيعاً ، وجعلوه آلة لأهوائهم السياسية ، ثم أتى رجال الدين بدورهم بتشجيع من المستبد ، وجعلوه دينا حرجا من كثرة ما ادخلوه عليه من تعقيد وتشعب ، وهكذا وبحدوث التشاكل بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني ، يتبادل المستبد ورجال الدين أوصاف التقديس. وهذه الحالة ، كما يشير الكواكبي سهلت في الأمم الغابرة دعوة بعض المستبدين الألوهية ، حتى يقال انه ما من مستبد سياسي إلى الآن ، الا ويتخذ صفة قدسية يشارك بها الله ، او تعطيه مقام ذي علاقة مع الله ، ولا اقل من ان يتخذ بطانة من خدمة الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله ، واقل ما يعينون به الاستبداد تفريق الأمم الى مذاهب وشيع. أحمد أبو زيد a_abozied@hotmail.com


مواضيع مرتبطة

التعليقات


الاستفتاء

اعلان ممول


المواقع الإجتماعية

القائمة البريدية