لا يعدل “الحرية” في الحياة أي قيمة أخري، ولهذا فأنا إستباقًا مع الحق في الإضرب ضد الإضراب في هذه اللحظة ليس من منطلق “فزاعات” التخوين الوطني التي انتشرت في الأيام الأخيرة، ولكن لعدم ملاءمة الأداة والوسيلة للهدف المطلوب تحقيقه، ولأن الحرية التي تدفعني إلي الإيمان بحق أي من كان في الدعوة إلي الإضراب العام شريطة ألا يهدر هذا الحق الحرية نفسها في الاختلاف السياسي، ومن ثم تصبح المطالبة بالإضراب إفتئاتًا علي هذا الحق، فأنا مع الإضراب ضد الإضراب. هناك من يعرف مسبقًا أن شروط الإَضراب العام لا تتوافر في الظروف الراهنة، ومع ذلك لم يتردد في الدعوة إليه بالرغم من أن المشهد السياسي العام يجعل من هذه الدعوة رغم الهدف المعلن لها وهو إجبار المجلس العسكري علي التخلي الفوري عن السلطة سلاحًا يرتد إلي صدر صاحبه لأن المجلس العسكري ما كان ليحشد مثل هذا التأييد سواءًا من جانب الأحزاب الساسية الممثلة للأغلبية أو من جانب المؤسسة الدينية التي علي الجانبين المسلم والمسيحي لم تكن ترغب في التورط المباشر بالشأن السياسي، إلي النقابات وحتي المواطن البسيط في غيبة موقف كهذا. هناك بون وفرق شاسع بين حرية الاحتجاج التي لا يظللها سوي سقف الحرية وهو خط دفاع أخير للقوي الثورية في لحظات المد الثوري وبشرط قدرتها علي حشد جماهيري مؤثر وحرق المراحل الذي لا يتسم بالنضج مما يتسبب في خسارة أدوات الضغط الواحدة تلو الأخري، فإذا لم ينجح التظاهر والاعتصام في الضغط اللازم لتغيير القرار والإرادة السياسيين فكيف يمكن الإسراع بالهروب إلي المجهول والتحول إلي تبني خيار الإضراب العام؟! لست علي استعداد في ظل مواضعات وقواعد المشهد السياسي أن أكون مثاليًا في الدفاع عن مبدأ “فولتير” بالتضحية بالذات في سبيل ضمان حرية الرأي والإختلاف لأن مثل هذه التضحية تصبح مجانية بلا طائل، فالحرية قيمة تستحق مثل هذه التضحية متي كان الجميع علي خط واحد لدفع ذات الثمن مقابلها، وليست فقط مطية يمكن الاستغناء عنها متي إنتفت الحاجة إليها، وبالتالي حتي الحق في الإضراب العام يفقد مبرراته في ظل الأوضاع الراهنة، فلا تستطيع ان تحشد له عددًا مؤثرًا من المؤيدين ومع ذلك تصر علي التمسك به في إصرار بالغ اشبه بالإنتحار السياسي. حتي الحد الأدني من الاتفاق بين القوى الثورية لا تفلح هذه القوى في تحقيقه ومع ذلك يتحدث البعض عن مواصلة الإضراب العام وتصعيده إلي حالة العصيان المدني دون ان تحقق الأداة السابقة النجاح يتم التصعيد نحو النهاية لتبدو وهذه القوى التي تتبني مثل هذا الطرح وكأنها تسعي لإجهاض الحالة الثورية واستنزاف رصيدها ليستمر من حصد ثمار المرحلة الاولي منها في حصد المزيد من الثمار التي تقع في “حجره” دون مجهود منه .. ولا احد يلتفت الآن اين انتهي المطاف بـ”الاخوان” و”السلفيون” دون القوي الثورية الاخري التي خاضت معركة اسقاط النظام الحاكم قبل ثورة 25، والتي لم تفلح في الوصول إلي تمثيل مؤثر داخل البرلمان، وفي اعتقادي ان ذلك كان اعنف اختبار لقدرتها علي الحشد السياسي، وعوضاً عن محاولة إصلاح هذا الاخفاق ساعدت كل من اصحاب الاغلبية البرلمانية الشرعية من جهة والمؤسسة العسكرية من جهة أخري علي تفتيتها لصالح مشروع كل منهما سواءاً كان ذلك عبر الطموح إلي الحكم الشامل عن طريق الجمع بين الهيمنة علي السلطتين التشريعية والتنفيذية تدريجياً كما هو طموح جماعة الأخوان او انتزاع سلطة مستقلة للجيش تمنحه حماية مصالحه والقيام بدور الحكم بين السلطات وهو دور منتزع علي حساب سلطات رئيس الجمهورية في ظل النظام الجمهوري حيث يظل الجيش حامياً للشرعية ومن ثم في منطقة نفوذ تسمح له بصيانة كافة مصالحه.. فأي عبث هذا الذي يتم بإسم الاضراب العام؟! لهذا رغم تعاطفي مع هذا الحق لا يمكنني قبوله ناهيك عن التبعات الاقتصادية العنيفة لمثل هذه المواقف والتي لم يعد الاقتصاد الوطني قادراً علي تحملها بعد ان جري تصنيفه من قبل وكالة “ستاندرد آند بورز” العالمية ضمن الاقتصادات عالية المخاطر بالعالم، وهو ما يطيح بأحلام استعادة الاستثمارات الاجنبية المباشرة بعيداً للغاية عما تستطيع خططنا الوصول إليه في الفترة القادمة. ولا اعرف علي وجه اليقين ماذا صنعت لنا الدعوة إلي الاضراب العام من تغيير في حدود المشهد السياسي سوي زيادة حدة الاستقطاب في مواجهة القوي الثورية من مختلف الاتجاهات وعودة الاجواء التي كانت سائدة في ظل النظام السابق إلي الظهور عندما تتباري المطبوعات القومية في اظهار معارضتها للاضراب وتلقي نشرات المجاملات الاعلانية التي تعرب عن تقديرها للمواقف الوطنية التي تتبناها القيادة السياسية.. كل هذا عاد للظهور مجدداً في صورة اعلانات لرفض الاضراب والعصيان ولتتأملوا ذلك الكم المنشور من الاعلانات في هذه الصحف من مؤسسات وهيئات تشكو تبعات الوضع الاقتصادي المتردي ! هل لنا ان نأمل في قليل من الإنتباه من جانب القوي الثورية حتي لا تزيد مساحات التقارب والتفاهمات بين القوي التي تصطف في مواجهتها علي حساب مصر، بينما لدينا معركتين بالغتا الخطورة هما “الإنتخابات الرئاسية”، و”وضع الدستور الجديد” مازلنا ننشغل عنهما بالاقل والادني.


مواضيع مرتبطة

التعليقات


الاستفتاء

اعلان ممول


المواقع الإجتماعية

القائمة البريدية