هل الإخوان المسلمون معتدلون في السياسة بطبعهم استنادا إلى مرجعيتهم الثقافية المؤصلة في كتب منظريهم، أم أن ظهور طيف من التيارات المتطرفة إلى يمينهم جعلهم يبدون كرمز للاعتدال؟ بداية وقبل أن يرميني قرائي بالتحيز ضد التيارات الإسلامية في العموم والإخوان بخاصة، أقول: إن احترامي لهذه الأحزاب هو أن نأخذ مقولاتهم على محمل الجد ونناقشها بما يليق بأهميتها من الجدية. ما وددت قوله في أول سطر من هذا المقال هو أن وجود التيار السلفي بغلوه الاجتماعي على يمين الإخوان، وكذلك وجود الجماعة الإسلامية التي كانت تتبنى العنف كوسيلة للتغيير ثم تراجعت عنه في مراجعاتها، ثم تيار الجهاد الذي يمثله أيمن الظواهري، الذي يمثل العمود الفقري لتنظيم القاعدة المتطرف، وجودها جميعا إلى يمين الإخوان ربما هو ما منح الإخوان صفة الاعتدال الصورية، وقد يكون الإخوان معتدلين بطبعهم، لكن هذا يحتاج إلى حوار جاد. في عالم الرأي والرأي الآخر الذي تتبناه التلفزيونات العربية كوسيلة لإظهار الحقيقة يبدو التقابل بين الإخوان وأضدادهم فيه إظهار للصورة الحقيقة، لكن فلسفة الرأي والرأي الآخر لا توصل للحقيقة. الحقيقة تكمن في عالم الحقائق لا عالم الرأي.
المتابع لتحولات الإخوان المسلمين منذ النشأة في مدينة الإسماعيلية عام 1928 لا تفوته ملاحظة الفوارق في التوجه والتفسير وطرق العمل السياسي بين الشيخ حسن البنا مثلا ثم المنحنى الجهادي الذي اتخذه ابن قرية موشة في أسيوط، الشيخ سيد قطب، حتى وصلت التحولات إلى التنظيم بشكله الحالي، الذي لم ينتج منظرين للحركة، حتى الآن، بمستوى سيد قطب، الذي كان يتحرك بين الدين والآداب برشاقة عالِم على الرغم من أن إنتاجه الفكري مثل منحنى التطرف الذي نهلت منه حركات الجهاد المختلفة فيما بعد، من كتاب «معالم في الطريق» حتى «معركة الإسلام والرأسمالية». ليس هذا مقالا عن تاريخ حركة الإخوان أو التحولات بداخلها، التي أصبحت قصصا مكتوبة تؤكد حقيقتها بالتكرار، فحتى هذه اللحظة لم يتعرض الإخوان فكرا لنقد صارم خارج رميهم بسهام القدح مرة أو كيل المديح لهم مرة من أنصارهم، لكن الحركة الآن، التي للتو تتأهب لتسلم السلطة في أكبر بلد عربي، تحتاج إلى نقد جاد؛ فالحركة لم تعد في صفوف المعارضة حتى نحسس عليها، بل اقتربت من كرسي الحكم، وأي قوة من دون نقد قد تتحول إلى قوة «غشيمة».
حضارتنا، على ما يبدو، ضد فكرة النقد بمعناها المركب؛ فشعرُنا إما كان من نوع المديح وإما من جنس الهجاء، لدرجة أن كلمة النقد في لغتنا أصبحت مرادفة للهجاء، على الرغم من أن النقد في الثقافات الأخرى يعني التذوق المركب للأشياء، أي أن تقول في الشيء ما له وما عليه وما بينهما، لكن مفهوم النقد عندنا تخلى عن دلالاته اللغوية وحدثت حالة تجريف للمفهوم أوصلته إلى العظم بعد أن نُزع عنه ما يكسوه من لحم، فأصبح النقد مرادفا للقدح أو الذم أو الهجاء، وانتفى التعقيد عن مفهوم النقد بمعناه الواسع، وهذا ملمح من ملامح انحطاط الحضارات.
في تقديري، لو عدنا إلى مسألة الاعتدال عند الإخوان لوجدنا أننا في أحسن الأحوال نتحدث عن الممارسة السياسية وليس الفكر؛ لأنه، كما ذكرت، بعد الإنتاج الفكري الغزير للشيخ سيد قطب، لم ينتج قطب من أقطاب الإخوان عملا فكريا يستحق التوقف عنده، إلا إذا اشتملنا الشيخ محمد الغزالي داخل الحركة، وكذلك الشيخ القرضاوي.. الشيخ الغزالي بلا شك كان أكثر عمقا، عشرات المرات، من القرضاوي، خصوصا في قضايا المرأة بين الفقه والحديث، لكن هذا الإنتاج لم يُثِر الجدل الذي يستحقه حتى بين أروقة الإخوان أنفسهم، ولهذا لا يمكن أن نضمن مشروع الغزالي الفكري ضمن التاريخ الفكري للإخوان.
ربما يرميني البعض بعدم الإلمام بالتاريخ المعاصر لفكر الإخوان المسلمين، لكن هذا أمر محل أخذ ورد؛ فمقولتي الأساسية في هذا المقال هي أن الحركة ربما اعتدلت في مسلكها السياسي، لكن منحاها الفكري لم يتغير قليلا بعد انحناءة سيد قطب، ولم ينتج كتاب واحد يمكن الإشارة إليه على أنه من كلاسيكيات الفكر الإخواني. إذن نحن نتحدث عن اعتدال سلوكي فرضته بنية السياسة في المجتمع المصري، ومتى تغيرت هذه البنية، فربما نكون أمام مفاجآت لا نتوقعها.
في تقديري وحتى هذه اللحظة، يبدو اعتدال الإخوان من دون أي تأصيل فكري يُذكر؛ فهذا الاعتدال، والتحولات السياسية التي لا تستند على تنظير فكري يمثل مظلة ثقافية لها، هي تحولات تقترب من حركة البندول، تتطرف إلى اليمين تارة وإلى اليسار تارة أخرى، وهذا ما سنراه بعد أن خرج الإخوان من السجن الثقافي المتمثل في القفص الحديدي الذي فرضه نظام مبارك بانحطاطه الثقافي، أو قل نظام يوليو (تموز) برمته، على حرية الفكر وحجبها عن الجميع في مصر.
اعتدال الإخوان يبدو كذلك لأن من على يمينهم من الجماعات الدينية تطرفوا أو غالوا في الانغلاق في تفسير الكتاب والسنة. وهو اعتدال يحتاج إلى تأصيل فكري له، وحتى هذه اللحظة لم نعرف من هذا الاعتدال سوى عبارات متناثرة هنا أو هناك في الصحافة السيارة وفي ما يسمى الـ«توك شو». الاعتدال، إن أراد أصحابه أن يثبتوه، يحتاج إلى عمل أعمق من التصريحات السياسية، يحتاج إما إلى مراجعة للمنطلقات الفكرية للحركة لأخذها في اتجاه الاعتدال، وإما إلى ظهور منظرين جدد يطرحون أفكارا جديدة من منطلقات جديدة، وحتى هذه اللحظة هذا لم يحدث. بالطبع قول كهذا لن يكون محل نقاش أو حوار في عالم الصوت العالي وغياب المعايير الحاكمة لأي جدل جاد وغياب المؤسسات المعرفية التي يحتكم إليها في البلدان التي خرجت لتوها من عهود الظلام وبراثن الانحطاط الثقافي.

نقلا عن (الشرق الأوسط) اللندنية

 


مواضيع مرتبطة

التعليقات


الاستفتاء

اعلان ممول


المواقع الإجتماعية

القائمة البريدية