جاءت العملية العسكرية التي استهدفت مجموعة من جنود وعسكر الجيش الإسرائيلي قرب مدينة إيلات الواقعة في أقصى الزاوية الجنوبية من فلسطين المحتلة عام 1948 في وقت حساس له معانيه الكبيرة، وفي ظل ظروف صعبة يعيشها الفلسطينيون على كل المستويات، بدءا من المستوى السياسي العام حيث تتواصل الضغوط الخارجية على عموم المعادلة الفلسطينية، وعلى الطرف السلطوي الفلسطيني في رام الله خاصة لمنع تمرير ما تسميه السلطة في رام الله "استحقاق أيلول" عبر الاجتماع القادم للدورة الـ66 للجمعية العامة للأمم المتحدة. فكيف نقرأ الأصداء والتفاعلات الفلسطينية لعملية إيلات؟

تفاوت في تقدير الموقف
في البداية، نقول إن قيام مجموعة مسلحة (أكانت فلسطينية أم غير فلسطينية حيث تشاع بعض المعلومات التي تقول إن المجموعة مصرية) باختراق الحصن الأمني الإسرائيلي في أهم معاقل "المدن الإسرائيلية" من الناحية الأمنية (لقربها من مفاعل ديمونا النووي) ومن الناحية السياحية (إطلالتها على البحر الأحمر وتربعها موقع المنتجع السياحي الأول عليه)، وتنفيذ عملية عسكرية اشتباكيه مباشرة في مواجهة الجيش الإسرائيلي تشكل "اختراقا نوعيا" في قلب الكيان العبري الصهيوني
ومع هذا، هناك تفاوت كبير في قراءة حادثة عملية إيلات وردود الفعل عليها من مختلف الأطراف الفلسطينية، بين مؤيد ومساند لها انطلاقا من حق الشعب الفلسطيني في المقاومة وفي استهداف جنود الاحتلال حتى لو كانوا داخل مناطق 1948، وبين متحفظ عليها باعتبارها جاءت في التوقيت غير المناسب، حيث تسعى السلطة في رام الله لنيل الاعتراف الأممي بدولة فلسطين فوق عموم الأرض المحتلة عام 1967، فيما جنح آخرون لاعتبارها نوعا من المغامرة غير المحسوبة التي تندرج في إطار ما أسماه أحدهم بـ"الطرنيب السياسي".

بينما اتجه آخرون (وهذا هو الأمر الهام في هذا المقام) لاعتبار عملية إيلات مغامرة جاءت في التوقيت الحساس لتصب في مصلحة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو والجيش الإسرائيلي، انطلاقا من أن نتنياهو والجيش معنيون بأن يعود اهتمام الرأي العام الإسرائيلي إلى القضايا الأمنية والسياسية وليس كما هو حاصل اليوم على القضايا الاقتصادية والاجتماعية، مفترضين بأن ما تبعها من تطورات وتوتر وقصف وتصعيد على قطاع غزة ساهم بإلغاء كل النشاطات التي كان من المفروض أن تجرى في عموم المدن والبلدات "الإسرائيلية" والمطالبة بالعدالة الاجتماعية.

لكن في المقابل، نسي أصحاب وجهات النظر المتحفظة على توقيت عملية إيلات الزمني من أن الاحتلال وشكله الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في عموم الضفة الغربية والقدس الشرقية هو السبب الرئيسي والأساسي لاستمرار دوامة العنف.

فعمليات التهويد والاستيطان الجائر مازالت إلى الآن تشكل واحدة من العقبات الكبرى التي تعترض مسار عملية "التسوية" الجارية منذ العام 1991 على المسار الفلسطيني/الإسرائيلي.
ولم يشفع للأرض الفلسطينية أو يبعدها عن يد الاحتلال وقطعان المستوطنين، انطلاق عملية "التسوية" بعيد انتهاء الأعمال الافتتاحية لمؤتمر مدريد نهاية العام 1991، حيث اتسعت عمليات مصادرة الأرض وتغيير معالمها، وإحداث التحولات الديمغرافية فوقها في ظل عملية "التسوية"، ووصلت مساحات الأراضي المصادرة في مدينة القدس الشرقية ومحيطها، وفي عموم الضفة الغربية إلى نحو (500) ألف دونم منذ انطلاق عملية "التسوية" بدءا من مؤتمر مدريد، وفق المعطيات المؤكدة التي قدمتها مراكز الأبحاث والدراسات بما فيها المراكز البحثية الإسرائيلية ومنظمات السلام داخل الدولة العبرية.

الضغط يولد الانفجار
وعليه فإن التهديف المباشر الذي وقع باتجاه جنود وعسكر الجيش الإسرائيلي قرب مدينة إيلات، يحمل معانيه ومغازيه العميقة، التي تقول بأن الجمود في مسار عملية التسوية من جانب، واستمرار عنف الاحتلال المتمثل بحصار قطاع غزة وعمليات التهويد والاستيطان من جانب آخر، سيقود نحو مربع العنف المقابل.

فالجهة الفدائية (أيا كانت) التي نفذت تلك العملية أرادت بالفعل توجيه رسالة (فصيحة وبليغة)، وعنوانها أن وجود الاحتلال واستمرار التهويد والاستيطان.. أمر يتعارض مع "عملية التسوية"، وأن التسوية لا يمكن أن تستقيم مع استمرار عمليات تهويد الأرض، وتناسي عناصر الصراع الدائر في المنطقة، وأنها ستعاود الاصطدام مرة ثانية بجدار العقبات الكبرى وفي مقدمتها عقبة الاستيطان ووجود أكثر من نصف مليون مستوطن يقيمون فوق الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 في القدس والضفة الغربية، عدا الجولان السوري المحتل.

وبالطبع، لا يمكن أن ننزع عملية إيلات عن سياقات إضافية لها علاقة بسياسات الاحتلال العنفية والقمعية ضد المواطنين الفلسطينيين في عموم الضفة الغربية.

فهناك قاعدة علمية ثابتة وراسخة، تقر بأن "الضغط يولد الانفجار"، حيث جاءت عملية إيلات لتشير بوضوح كامل إلى أن ضغط الاحتلال، وارتفاع درجة الاحتقان من ممارسات الاحتلال في الشارع الشعبي الفلسطيني لن يولد سوى ردود الفعل المقابلة على الجبهة الفلسطينية، خصوصا بعد العدوان الشامل على قطاع غزة وبعد سنوات من الحصار الظالم المفروض على القطاع وعلى عموم الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967.

فقبل أكثر من عام ونصف مضى، كان قطاع غزة مسرحا وميدانا لأكبر عملية عسكرية جنونية شهدها التاريخ المعاصر، عندما وجهت "إسرائيل" ضربة جوية عنيفة إلى المراكز الأمنية الفلسطينية في قطاع غزة، حين شنت أكثر من 80 قاذفة إسرائيلية من نوع (F16) الموجة الأولى من عمليات القصف الوحشي التي طالت جميع مناطق القطاع، وألقت في الدقائق الثلاثة الأولى منها أكثر من (100) قنبلة، وزن الواحدة منها (طن) بالكامل على مائة هدف منتقى، وهو رقم يفوق ما ألقته قاذفات الحلفاء في الحرب العالمية على مدينة درسدن الألمانية عند حساب النسبة والتناسب.

عدا استمرار القصف المتتالي، واستخدام قنابل الفوسفور الأبيض الحارق المحرم دوليا، وقنابل السهام الخارقة، واتخاذ المدنيين العزل دروعا بشرية. ومن الصحيح القول إنها ليست الأولى في تاريخها ولكنها بالتأكيد هي الأشرس والأقوى، حرب استهدفت كل شيء على هذه الأرض بين طرف مدجج بالسلاح وطرف آخر واجه المعتدي بصدور شبابه وبالسلاح المتواضع، ففقد فيها الطرفان أي منطق أو مقياس للتوازن.

وعليه، فإن جرائم الاحتلال، واستمرار حصار قطاع غزة، كانت ومازالت (الصاعق) الحاضر دائما للانفجار في أي لحظة. حيث لا يمكن نزع هذا الفتيل الصاعق دون انتزاع مسبباته، وفي مقدمتها الاحتلال ومستتبعاته الاستيطانية الاستعمارية فوق الأرض الفلسطينية المحتلة.
حقائق حملتها عملية إيلات
إن عملية إيلات، وبغض النظر عن التحفظات التي تقال بشأنها، إن كانت من زاوية التوقيت، أو من الزاوية المبدئية التي يبديها البعض والتي ترفض اللجوء للعنف المسلح، فإنها جاءت لتؤكد على مجموعة من الحقائق، أولها أن الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه لا يمكن أن ينعموا في هدوء واستقرار مادام الاحتلال قائما وجاثما على صدر الشعب الفلسطيني.

وثانيها أن الحال الفلسطينية الداخلية وحركات العمل الفدائي الفلسطيني عامة لا زالت قادرة على توجيه ضربات قاسية للاحتلال في أي مكان على أرض فلسطين التاريخية حتى وإن تعقدت الأمور في بعض أغلب الأحيان.
وثالثها أن القيادة في "إسرائيل" مازالت تسير بعقلية أمنية في معالجة الشأن المتعلق بالقضية الفلسطينية، ولا تقرأ الواقع كما هو، معتقدة أن الخيارات العسكرية وخيارات القبضة الحديدية قادرة على إجهاض أي نزوع فلسطيني لمقاومة الاحتلال أو مواجهة سياساته وعنفه الموجه ضد الشعب الفلسطيني.
ورابعها، أن "إسرائيل" وأجهزتها الأمنية الأخطبوطية فشلت هذه المرة فشلا أمنيا ذريعا في قراءة الواقع الأمني وهو ما دفعها لشن عمليات عسكرية وإغارات متتالية على قطاع غزة انطلاقا من أن "هيبتها" لن تسمح لها أن تكون تحت "رحمة صواريخ غزة"، على حد تعبير بعض الصحف العبرية قبل أيام.

فالرد الموجع في إيلات كرس في الواقع العملي خطوة إضافية في زعزعة مقولات السيطرة الأمنية الإسرائيلية، وفي تعزيز الرأي الذي يقول بهشاشة حواجز الأمن والجيش، وجدران الإسمنت والتكنولوجيا الصهيونية المتطورة في كبح أو الحد من إمكانية توليد الرد المقابل.

وخامسها أن التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والجهات الإسرائيلية المعنية، فشل في إيقاف عملية نوعية جديدة في مدينة حساسة كإيلات، فعموم الأرض المحتلة عام 1967 وفي ضوء الممارسات الإسرائيلية تعيش على بركان، مضافا له ما يحدث من حصار سياسي واقتصادي يهدد مستقبلهم.

عملية إيلات وأشكال الكفاح المتعددة

إلى ذلك، فإن الفلسطينيين يملكون ويحملون كل المبررات للمس بجنود الجيش الإسرائيلي وبعصابات المستوطنين، مع تواصل المس الإسرائيلي المفجع بالمدنيين الفلسطينيين في الغارات شبه اليومية على أطراف قطاع غزة، وفي وسطه، دون أن ينبس العالم المتحضر بنت شفاه للاحتجاج حتى اللفظي على ممارسات الاحتلال.
وبغض النظر عما قد يقال بشأن توقيت عملية إيلات، فإنها نقطة تحول نوعي في صراع الإرادات والمكاسرة مع الاحتلال، ليس لكونها حصدت عددا من القتلى الإسرائيليين من العسكريين، بل لأكثر من سبب، منها ما يتعلق بالزمان والمكان، وبالظروف المترافقة مع انسداد أفق التسوية على مسارها الفلسطيني/الإسرائيلي، حتى عند الحديث عن "استحقاق أيلول".


إن عملية إيلات، وفي واحدة من تجلياتها، تؤكد من جديد أن الشعب الفلسطيني مازال يملك روحا عالية واستعدادا هائلا لمعاودة طريق العمل الفدائي المسلح جنبا إلى جنب مع كل الخيارات الكفاحية المتعددة، بما فيها العمل السياسي والدبلوماسي، رغم الظروف الصعبة والقاسية، وافتقاره للغطاء العربي المساند ووجود حالة الانقسام في البيت الفلسطيني الواحد.
ومن هنا، فإن إتمام السير على طريق المصالحة الوطنية في البيت الفلسطيني أمر لا بد منه لتفعيل الخيارات الوطنية الفلسطينية بما فيها استخدام كل الوسائل الشرعية في مناهضة الاحتلال والعمل الفدائي المسلح إلى جانب كل الأشكال الممكنة.

إضافة لتحصين وتقوية الجبهة الداخلية الفلسطينية وجعلها قادرة على الصمود في وجه الاحتلال ومخططاته الاستعمارية والتوسعية والعنصرية، ومضاعفة قدرة الشعب الفلسطيني على إنجاز أهدافه الوطنية من خلال استنفار قوى الدعم العربي والدولي المناصرة للقضية الفلسطينية، والاستثمار الأقصى لحالة التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني التي تتطلب الاستناد إلى عدالة القضية الفلسطينية وتفوقها الأخلاقي، وتوظيف جميع القرارات والتقارير الدولية المناصرة للقضية الفلسطينية

 


مواضيع مرتبطة

التعليقات


الاستفتاء

اعلان ممول


المواقع الإجتماعية

القائمة البريدية